(( مفهوم الحب )) من المفاهيم المركزية التي قام عليها الإسلام منذ مرحلة تأسيسه فصبغ كل تعاليمه وتوّجها بعاطفة الحب التي هي المحرك الفاعل فيها . بل إن الحب في الله لون من ألوان العبادة المأمور بها شرعاً في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
إنه يعني " الصفاء والنقاء " ويضم إلى ذلك معنى الالتزام والثبات وهو ما يفرق بين العاطفة والانفعال بالمعنى النفسي للكلمتين ؛ فالعاطفة تتسم بالهدوء والاستقرار والاستمرار على عكس الانفعال .
إن (( هرم الحب )) يتسع ثم يضيق . يتسع ليشمل الأسرة والمجتمع ، ويضيق ليصل إلى أصل الحب وينبوعه وهو حب الله سبحانه .
لكننا نركز في هذا المحور ( في عدده الأول ) على (( آدم وحواء في واحة الحب )) لنبين موقع الحب الطاهر من البناء الأسري وندعم ذلك بصورة حية ((من واقع الحب )) جسدها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين رضوان الله عليهن ، وشعر الأزواج والزوجات المحبين ضمن رباط الزوجية المقدس الطاهر .
وكشأن كل المفاهيم لم يسلم لها ذلك الصفاء والنقاء ، فطرأ عليها ما يعكرها ويشوبها بشائبة سوء لطخت سمو معناها ، وطهارة مبناها ، ونقاوة إيحاءاتها بأوحال الرذيلة لأغراض كثيرة نبينها في محور (( تشويه الحب في الأدب والإعلام العربي )) .
ثم نختم - على عادتنا في كثير من محاور الأسرة - بنماذج (( من واحة شعر المحبين )) تتسم - في جملتها - بسحر البيان وصدق العاطفة الجيَّاشة .
المحرر ..
مفهوم الحب
معنى الحـب وأصل اشتقاقه :
قيل : إن المحبة أصلها من : الصَّفاء ، ذلك أن العرب تقول في صفاء بياض الأسنان ونضارتها: ( حَبَبُ الأسنان ).
وقيل : إنها مأخوذة من الحُباب . وهو الذي يعلو الماء عند المطر الشديد. فكأنَّ غليان القلب وثوراته عند الاضطرام والاهتياج إلى لقاء المحبوب يُشبه ذلك.
وقيل : مشتقة من الثبات والالتزام ، ومنه : أَحَبَّ البعير، إذا برك فلم يقُمْ، لأن المحبَّ لزم قلبه محبوبه .
وقيل : النقيض ، أي مأخوذة من القلق والاضطراب، ومنه سُمى (القرط) حبّاً لقلقه في الأذن ، قال الشاعر :
تبيتُ الحية النّضْناض منه
مكان الحَبِّ تستمع السِّرارا
وقيل : بل هي مأخوذة من الحُبِّ جمع حُبَّة وهي لباب الشيء وأصله ؛ لأن القلب أصل كيان الإنسان ولُبّه ، ومستودع الحُبِّ ومكمنه.
وقيل : في أصل الاشتقاق كثير غير هذا، لكننا نعزف عن الإطالة والإسهاب . ولتعريف الماهية نقول إن الحب هو: الميْل الدائم بالقلب الهائم، وإيثار المحبوب على جميع المصحوب ، وموافقة الحبيب حضوراً وغياباً ، وإيثار ما يريده المحبوب على ما عداه ، والطواعية الكاملة ، والذكر الدائم وعدم السلوان ، قال الشاعر:
ومَنْ كان من طول الهوى ذاق سُلْوَةً
فإنِّيَ من ليْلى لها غيرُ ذائقِ
وأكثر شيء نِلتـُهُ من وصالها
أَمانِيُّ لم تصدُق كلَمْعةِ بارقِ
أو عمى القلب عن رؤية غير المحبوب ، وصَمَمهُ عن سماع العذل فيه، وفي الحديث الذي رواه الإمام "أحمد" تصديق ذلك، إذ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [حُبُّك الشيءَ يُعْمي ويُصمّ ].
أو الحضور الدائم ، كما قال الشاعر:
يا مقيماً في خاطري وجَناني
وبعيداً عن ناظري وعِياني
أنت روحي إن كنتُ لستُ أراها
فهي أدنى إليّ من كُلِّ دانِ
وقال آخر:
خيالك في عيني، وذكراك في فمي
ونجواك في قلبي، فأيْن تغيبُ ؟!
أسماء الحب ومراحله :
وضعوا للحب أسماء كثيرة منها المحبة والهوى والصبوة والشغف والوجد والعشق والنجوى والشوق والوصب والاستكانة والود والخُلّة والغرام والهُيام والتعبد. وهناك أسماء أخرى كثيرة أمسكنا عن ذكرها التقطت من خلال ما ذكره المحبون في أشعارهم وفلتات ألسنتهم وأكثرها يعبر عن العلاقة العاطفية بين الرجل والمرأة.
الهوى : يقال إنه ميْل النفس ، وفعْلُهُ: هَوِي، يهوي، هَوىً، وأما: هَوَىَ يَهوي فهو للسقوط، ومصدره الهُويّ.
وأكثر ما يستعمل الهَوَى في الحبِّ المذموم، قال تعالى: (وأمَا من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى * فإنَّ الجَنَّة هي المأْوى ) [النازعات 40-41] .
وقد يستعمل في الحب الممدوح استعمالا مقيداً، منه قول النبي صلى الله عليه وسلم: [لا يؤْمن أحدكم حتى يكون هَواهُ تبعاً لما جئتُ بِه].
وجاء في الصحيحين عن "عروة بن الزبير" - رضي الله عنه - قال: (كانت خولة بنت حكيم: من اللائي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم، فقالت "عائشة" رضي الله عنها : أما تستحي المرأة أن تهَبَ نفسها للرَّجُل؟ فلمّا نزلتْ( تُرْجي من تشاء مِنْهُنَّ ) قلت: يا رسول الله ما أرى ربَّك إلا يُسارعُ في هواك "
والصَّبْوة : وهي الميل إلى الجهل، فقد جاء في القرأن الكريم على لسان سيدنا "يوسف" عليه السلام قوله تعالى:
( وإلا تَصرفْ عني كيدَهن أصبُ إليهنَّ وأكنُ من الجاهلين ).
والصّبُوة غير الصّبابة التي تعني شدة العشق، ومنها قول الشاعر:
تشكّى المحبون الصّبابة لَيْتني
تحملت ما يلقون من بينهم وحدْي
والشغف: هو مأخوذ من الشّغاف الذي هو غلاف القلب، ومنه قول الله تعالى واصفاً حال امرأة العزيز في تعلقها بيوسف عليه السلام ( قد شغفها حُباً ) ، قال "ابن عباس" رضي الله عنهما في ذلك: دخل حُبه تحت شغاف قلبها.
والوجد : وعُرف بأنه الحب الذي يتبعه الحزن بسبب ما.
والكَلَفُ : وهو شدة التعلق والولع، وأصل اللفظ من المشقة، يقول الله تعالى: ( لا يُكلف الله نفساً إلا وُسْعَهَا ) . وقال الشاعر:
فتعلمي أن قد كلِفْتُ بحبكم
ثم اصنعي ما شئت عن علم
ثم العشق: وكما يقال عنه: أمرّ هذه الأسماءُ وأخبثها، وقلّ استعمال العرب القدماء له، ولا نجده إلا في شعر المتأخرين، وعُرِّف بأنه فرط الحب. قال الفراء:
العشق نبت لزج، وسُمّى العشق الذي يكون في الإنسان لِلصُوقهِ بالقلب.
والجوى : الحرقة وشدة الوجد من عشق أو حُزْن.
والشوق: هو سفر القلب إلى المحبوب، وارتحال عواطفه ومشاعره، وقد جاء هذا الاسم في حديث نبوي شريف، إذ روى عن "عمار بن ياسر" رضي الله عنه أنه صلى صلاة فأوجز فيها، فقيل له: أوجزت يا " أبا اليقظان " !! فقال: لقد دعوت بدعوات سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم" يدعو بهن:
[اللهم بعلمك الغيب، وقدرتك على الخلق، أحيني إذا كانت الحياة خيراً لي، وتوفني إذا كانت الوفاة خيراً لي، وأسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وأسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، وأسألك القصد في الفقر والغنى، وأسألك نعيماً لا ينفد، وأسألك قرة عين لا تنقطع، وأسألك الرضى بعد القضاء، وأسألك بَرَد العيش بعد الموت، وأسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مُضرة، ولا فتنة ضالة، اللهم زيِّنَّا بزينة الإيمان، واجعلنا هُداة مهتدين] .
وقال بعض العارفين :
(لما علم الله شوق المحبين إلى لقائه، ضرب لهم موعداً للقاء تسكن به قلوبهم).
والوصَب ُ: وهو ألم الحب ومرضه، لأن أصل الوصب المرض، وفي الحديث الصحيح: [ لا يصيب المؤمن من همّ ولا وصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفّر الله بها من خطاياه ] .
وقد تدخل صفة الديمومة على المعنى، قال تعالى:
( ولهم عذابٌ واصبٌ ) وقال سبحانه: ( وله الدينُ واصباً ) .
والاستكانة: وهي من اللوازم والأحكام والمتعلقات، وليست اسماً مختصاً، ومعناها على الحقيقة : الخضوع ، قال تعالى:
( فما استكانوا لربهم وما يتضرعون ) ، وقال: ( فما وَهَنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضَعُفوا وما استكانوا ) .
وكأن المحب خضع بكليته إلى محبوبته، واستسلم بجوارحه وعواطفه، واستكان إليه.
والوُدّ : وهو خالص الحب وألطفه وأرقّه، وتتلازم فيه عاطفة الرأفة والرحمة، يقول الله تعالى: (وهو الغفور الودود) ، ويقول سبحانه: (إن ربي رحيم ودود) .
والخُلّة: وهي توحيد المحبة، وهي رتبة أو مقام لا يقبل المشاركة، ولهذا اختص بها في مطلق الوجود الخليلان "إبراهيم" و"محمد" صلوات الله وسلامه عليهما ، قال تعالى: (واتَخَذَ اللهُ إبراهيم خليلاً) .
وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: [ إنّ الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً ] وقال صلى الله عليه وسلم: [ لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن ]، وقال صلى الله عليه وسلم: [ إني أبرأ إلى كل خليل من خلته].
وقيل: لما كانت الخلّة مرتبة لا تقبل المشاركة امتحن الله سبحانه نبيه "إبراهيم" - الخليل - بذبح ولده لما أخذ شعبة من قلبه ، فأراد سبحانه أن يخلّص تلك الشعبة ولا تكون لغيره، فامتحنه بذبح ولده ، فلما أسلما لأمر الله، وقدّم إبراهيم عليه السلام محبة الله تعالى على محبة الولد، خلص مقام الخلة وصفا من كل شائبة ، فدي الولدُ بالذبح.
ومن ألطف ما قيل في تحقيق الخلّة : إنها سميت كذلك لتخللها جميع أجزاء الروح وتداخلها فيها، قال الشاعر:
قد تخلَّلْتِ مسلك الروح مِني وبذا سُمِّي الخليل خليلاً
وقال بعض العلماء المحققين :
قد ظن بعض من لا علم عنده أن الحبيب أفضل من الخليل، وقال: "محمد حبيب الله، و"إبراهيم خليل الله، وهذا باطل من وجوه كثيرة:
منها : أن الخلّة خاصة، والمحبة عامة، فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين، وقال في عباده المؤمنين: ( يُحبُّهم ويُحبونه ) .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وسلم نفى أن يكون له من أهل الأرض خليل، وأخبر أن أحب النساء إليه عائشة رضي الله عنها، ومن الرجال أبوها .
ومنها : أنه صلى الله عليه وسلم قال: [لو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكن أُخوّة الإسلام ومودته ]
ومنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: [إن الله اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلاً].
والغرامُ : وهو الحب اللازم، ونقصد باللازم التحمل ، يقال: رجلٌ مُغْرم، أي مُلْزم بالدين ، قال "كُثِّير عَزَّة":
قضى كل ذي دينٍ فوفّى غريمه و"عزَّة" ممطول مُعنًّى غريمُها
ومن المادة نفسها قول الله تعالى عن جهنم: (إنَّ عذابها كان غراماً ) أي لازماً دائماً.
والهُيام : وهو جنون العشق، وأصله داء يأخذ الإبل فتهيم لا ترعى، والهيم (بكسر الهاء) الإبل العطاش، فكأن العاشق المستهام قد استبدّ به العطش إلى محبوبه فهام على وجهه لا يأكل ولا يشرب ولا ينام، وانعكس ذلك على كيانه النفسي والعصبي فأضحى كالمجنون، أو كاد يجنّ فعلاً على حد قول شوقي :
ويقول تكاد تُجَـنُّ به فأقول وأوشك أعبُده
مولاي وروحي في يده قد ضيّعها سلِمت يده
ونصل إلى قمة الهرم صعوداً في معنى الحب ومرادفاته، وهو: التعبد، وقيل فيه: التعبد هو غاية الحب وغاية الذُل يقال: عَبّده الحبُّ أي ذلّله وطريق معبّد بالأقدام، أي مذلل، وكذلك المحب قد ذلـلّه الحب ووطّأه، ولا تصلح هذه المرتبة إلا لذات الله تعالى فمحبة العبودية أشرف أنواع المحبة، وهي خالص حق الله على عباده . وجاء في الصحيح عن "معاذ بن جبل" رضي الله عنه قال:
(كنت سائراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: [ يا معاذ] … قلت: لبيك يا رسول الله وسَعدَيك ، قال: [ أتدري ما حق الله على عباده ؟ ] قلت : الله ورسوله أعلم، قال: [حقه عليهم أن يعبدوه لا يشركوا به شيئاً… أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك ؟ ألا يعذبهم بالنار] .
وقد ذكر الله سبحانه وتعالى رسله بالعبودية في أشرف مقاماته، وهي مقام التحدي، ومقام الإسراء، ومقام الدعوة.
فقال في التحدي: (وإن كنتم في ريبٍ مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورةٍ من مثلهِ) .
وقال في مقام الإسراء: (سُبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله) .
وقال في مقام الدعوة: ( وأنه لما قام عبد الله يدعوه ) .
وإذا تدافع أولو العزم الشفاعة الكبرى يوم القيامة، يقول "عيسى" عليه السلام لهم" اذهبوا إلى "محمد"، عَبْدٌ غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فهو عليه الصلاة والسلام قد نال ذلك المقام بكمال العبودية وكمال مغفرة الله له، فأشرف صفات العبد صفة العبودية، وأحب أسمائه إلى الله: عبد الله، وعبد الرحمن ، وأصدقها حارث، وهمّام، وأقبحها حرب ، ومُرة… كما جاء عن الصادق الأمين صلوات الله وسلامه عليه.
راجع كتاب الحب والجنس من منظور إسلامي
للأستاذ: محمد علي قطب
أنواع الحـب :
الحب معنًى من أوسع المعاني ، فهو أكبر من أن يحصر في حيز علاقة بين مخلوق ومخلوق، إنه كالنهر الذي تستمد منه القنوات ماءها ثم قد تتشعب كل قناة بدروها فيشمل الحب حب الإنسان لنفسه ، ويتفرع من ذلك حب الوجود وحب كمال الوجود .
ومن حب الوجود يخرج حب البقاء في الدنيا ثم حب الخلود في الجنة في الآخرة ومن حب كمال الوجود ينشأ حب النساء والأبناء والمال والجاه. وهكذا الحال في أنواع الحب الأخرى .
فحب الإنسان لغيره يشمل حب الدين والوطن والآباء والعشيرة والإخوان والأمة بجميع أعضائها المؤمنين وأعلاهم الأنبياء وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كله حب لهم لا لذاتهم بل لأجل حب الله عزوجل وهو الذي يُحبّ لذاته سبحانه
قال ابن القيم في الدواء الكافي : ( هناك أنواع من المحبة :
أحدها : محبة الله ولا تكفي وحدها في النجاة من عذاب الله والفوز بثوابه فإن المشركين وعبّاد الصليب واليهود وغيرهم يحبون الله .
الثاني : محبة ما يحبه الله وهذه هي التي تدخله في الإسلام وتخرجه من الكفر.
الثالث: الحب لله وفيه وهي من لوازم محبة ما يحبه الله.
الرابع : المحبة مع الله وهي المحبة الشركية وكل من أحب شيئاً مع الله لا لله ولا من أجله ولا فيه فقد اتخذه نِداً من دون الله وهي محبة المشركين .
وبقي قسم خامس وهو المحبة الطبيعية وهي ميل الإنسان إلى ما يلائم طبعه كمحبة العطشان للماء والجائع للطعام ومحبة النوم والزوجة والولد فتلك لا تذم إلا إذا ألهت عن ذكر الله وشغلت عن محبته ) .
هَرَم الحـب
تمهيد :
شبه بعض العلماء الحب بالهرم قاعدته أوسع ما فيه ثم كلما علوت في درجاته تقلص وتفرد حتى يصير في النهاية إلى قمة حب متفرد وهو حب الواحد الأحد سبحانه وتعالى:
إنها الْهَرَميَّة إذاً نسبة إلى الهرم ، وهو طراز هندسي تتسع قاعدته ، وتضيق ارتفاعاً تدريجياً حتى تبلغ القمة فتكون نقطة ، وأحجاره ، أو طبقاته - سمها ما شئت - ترتكز في بنائها أو تستند إلى بعضها بنسبة من القوة والدعم والتماسك.
وهو من حيث الشكل يشبه الجبل، سفحه عريض واسع، وصخوره ونتوءاته وحبات ترابه يتراكب بعضها فوق بعض، ثم تضيق تدريجياً حتى تبلغ الذروة.
والرؤية في أسفليهما (الجبل والهرم) محدودة البعد النظري، وكلما ارتقينا فيهما امتد البصر أبعد، وغطى مساحة أكبر، وبدت المناظر أبهج وأوقع، فينعكس ذلك على النفس راحةً وبهجة وسعادة.
والبناء الهرمي أرسخ وأمتن وأقوى…
وليس في التضاريس الطبيعية الكونية ما يضارع الجبال رُسوَّاً، قال تعالى: (والجبالَ أرساها) ، وقال عز من قائل: (وألقى في الأرض رواسي أن تميد بكم) . ونعني بالرسوّ : الرسوخ .
فكل ما في الكون مسخر للإنسان حتى الجماد ولذا لا تعجب لقول النبي صلى الله عليه وسلم : [أُحد جبل يحبنا ونحبه] رواه البخاري ومسلم . وكذا الحيوان في الجملة، وأيضاً النبات ، كل ذلك ميسرٌ لما خلق له، وموظف في شأن من شؤون الكون والخلق حسب التقدير والتدبير الإلهي العظيم، فتبارك الله أحسن الخالقين.
وكل ذلك أيضاً مرتبط مع الكون، والإنسان خاصة، بقاعدة الحب، مبدأ ومنتهًى.
فالمأكول المطعوم، يُطلب في ذبحه الرأفة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [لِيُرحْ أحدكم ذبيحته، ولْيُحِدَّ شفرته] .
كما نهى عليه الصلاة والسلام أن يُتَّخذ كل ذي روح غرضاً يُرمى، ولقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: [أن امرأة دخلت النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها ولا هي تركتها تأكل من خَشاش الأرض] .
وما قصة الرجل الذي كان بفلاة، وقد جَهده العطش، ثم وجد بئراً فنزلها وشرب منها، وحين صعِد وجد كلباً ضالاً قد أصابه من العطش ما كان قد أصاب الرجل فعاد إلى البئر ونزع أحد خُفيه وسقى الكلب ، فغفر الله له…
ما قصته عنا ببعيدة أو مجهولة !
ولقد عقّب عليه الصلاة والسلام إثر روايتها بقوله: [في كلِّ كبدٍ رَطْبةٍ أجر] .
وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام لبعض أصحابه حين نزعوا فَرْخى حُمّرة -وهي طائر كالعصفور- من عُشهما، وقد عادت أمهما تحوم حول العش وترفرف: (من فجع هذه في فرخيها ؟
فالرأفة والرحمة - في كل ما مر - إن هما إلا من مستودع الحب ومنبعه ومن فيض توقده وشعاعه.
ثم يترقى المحبُّ ويعلو طبقةً… جديدة… ليتعامل مع العنصر البشري كافة .. بروح صافية مُحبة وَدود .
وصدق الباري عزوجل، إذ يقول: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين) ، فرسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي وقف ذات يوم وقد مرت به جنازة، احتراماً.. فقيل لها: " إنها جنازة يهودي يا رسول الله! ". فقال: [ أو ليست بنفس ؟! ] وهو الذي كان يوصي أمراءه وجنُده بألا يقتلوا طفلاً أو شيخاً مُسناً أو امرأة…
وهو عليه الصلاة والسلام الذي كان يقول: [من عادى ذمياً فقد عاداني، ومن عاداني فقد عادى الله تعالى ] ويقول: [ من قتل ذمياً لم يَرَح ( أي يشم والمعنى لن يدخلها ) رائحة الجنة ] ].
ثم يترقى المسلم في حُبه إلى محيطه الأسري الخاص، وهو مبحث طويل، نحاول بإذن الله تعالى أن نوفق بينه وبين ضرورة الموضوع ما أمكن.
العلاقة الزوجية في حِمى الحب
يقول الله سبحانه وتعالى: ( ومن آياته أنْ خلقَ لكم من أنفُسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعلَ بينكم مودةً ورحمة ) وأوصى النبي صلى الله عليه وسلم الرجال بحسن معاملة النساء [ خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي ] رواه الترمذي وابن ماجه .
وأوصى المرأة كذلك بحسن معاشرة الزوج وبطاعته وجعل رسول الله [ خير ما يكنز المرء المرأة الصالحة إذا نظر إليها سرته وإذا أمرها أطاعته وإذا غاب عنها حفظته ] رواه أبو داود وغيره .
كل الذي مر بنا إن هو إلا مفهوم لحقيقة أبدية راسخة لا بد وأن تتوفر بين الطرفين فتكون حياتهما على أكمل صورة وأروع مثل.
الزوجان والأولاد في دوحة الحب
…ويعلو المسلم المحب درجة عندما يرزقه الله تعالى ثمرة الزواج مولوداً، وترتفع أغصان دوحته صُعُداً، وتمضي في الفضاء سموقاً وبسوقاً.
ويشتد الحب في الأبوين حناناً وعطاءً ورعايةً، ويأتلف قلباهما أكثر وأكثر اتحاداً وفناءً، ويذوبان في جو الكينونة الجديدة وينصهران انصهاراً ، ويبدو أن مع واسطة العقد خلقاً آخر … فؤاده الحبّ… وذاته الودّ… وروحه الرحمة… وجوارحه الرأفة .
هذا التفاني في العطاء تدبيراً وتربية : هو رسالة الأبوة والأمومة، يغذوها الحب بكل ما رُكّب في خاصته، حتى يشتد عود المولود على سوقه، ويأخذ سبيله في دروب الحياة، ولكنها رسالة لا تتوقف عند حد، ولا يحجزها عن المضي إلى غايتها حاجز…
وبالمقابل فإن دورة الحب لا بد وأن تكتمل، وتعود في منتهاها إلى مبدئها، يقول الله تعالى: (وقضى بك ألا تعبدوا إلا أياهُ وبالوالدين إحساناً إما يبلغنَّ عندك الكِبَر أحدُهما أو كلاهما فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولاً كريماً * واخفض لهما جناح الذل من الرحمة وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيراً ) (الإسراء 23-24) .
أيها الحبيب !
أرجو أن تلحظ معي بدقة استهلال الآية الكريمة: (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه) فالعبادة لله تعالى وحده هي خالص الحب… وقمتّه وذروته، وثنَّى عزوجل بقوله: (وبالوالدين إحساناً) فالإحسان إليهما رافد صغير من بحر الحب يتدفق رقراقاً..
ثم فصَّل سبحانه كيفية الإحسان، بالقول والفعل، بالكلمة الطيبة الكريمة، وخفض الجناح مع الرحمة.
وقال رسولنا الكريم صلوات الله وسلامه عليه لمن سأله عن أحقّ الناس بصحبته، [أمك أمك أمك … ثمّ أبوك ] رواه البخاري ومسلم .
وقال أيضاً: [ أنت ومالُك لأبيك] رواه أبو داود وابن ماجه وأحمد بألفاظ متقاربة .
ويطول بنا البحث لو استعرضنا بالتفصيل القواعد والأصول التي تقوم عليها علاقة كل من الطرفين بالآخر . الأبوين والأولاد . وحقوق كل على الآخر.
ويكفينا القول إن الحب - والحب وحده - هو القاعدة الأساسية، أما العواطف الأخرى فهي منبثقة عنه، وتتشكل من خلاله، وتستقي من ينبوعه الذي لا ينضب
ذوو الرحم ولُحمة الحب
وهي درجة أو طبقة أخرى تمضي عُلواً…
فذوو الرحم أقارب المرء وأهله، وإن شئت فقل هم أسرته الكبرى… والرحم مشتقة من الرحمة، فهي بحد ذاتها تتضمن تلقائياً معنى الود والحب، والكل يرجع إلى (الرحمن - الرحيم).
وفي حديث قدسي، يقول الله سبحانه وتعالى للرحم : ( ألا ترضين أن أصل من وصلك وأقطع من قطعك) رواه البخاري ومسلم .
ناهيك بالآيات البينات في القرآن الكريم التي تحض على صلة ذوي الأرحام (وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله) .
المجتمع الإسلامي في وحدة الحب
ونمضي في البناء الهرمي صعوداً لنبلغ طبقة المجتمع الإٍسلامي. فماذا يقول الله تعالى في نوعية العلاقة التي تحكم أفراده؟ وما هي الوشائج والصلات التي تشدهم بعضاً إلى بعض، ليكونوا وحدة متماسكة ؟
( إن هذه أمتكم أمةً واحدة).
(محمدٌ رسولُ الله والذين معه أشداء على الكفار رُحماء بينهم تراهم ركّعاً سجّداً يبتغون فضلاً من الله ورضواناً سيماهم في وجوههم من أثر السجود ذلك مَثَلُهم في التوراة ومثلهم في الإنجيل كزرع أخرج شطأهُ فآزره فاستغلظ فاستوى على سوقه . يُعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات منهم مغفرة وأجراً عظيماً) .
(إنما المؤمنون إخوة).
ولا حاجة بنا إلى التعليق، فإن في مضامين آيات الله البينات ما يُعجزنا عن الكلام، ويقصر بعباراتنا عن الإيضاح.
وماذا يقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم؟
[المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يُسلمه] رواه البخاري ومسلم .
[الدين النصيحة… لأئمة المسلمين وخاصتهم وعامتهم] رواه البخاري ومسلم .
[لا تؤمنوا حتى تحابُّوا ] رواه مسلم .
وغير ذلك كثير أيضاً..
فالحب - أيها الحبيب - كما هو ملحوظ من مدلولات الآيات الكريمة الأحاديث الشريفة - هو القاعدة الثابتة التي يرتكز إليها بناء المجتمع الإسلامي، بل هي حصن جديد يعلو ويسمو بالمسلم المحب .
حب الصفوة والقدوة
وتطوى مسافات الزمن بالنسبة إلى كل مسلم محب، أي موقع وُجد فيه، ليرتفع ويسمو في البناء الهرمي.
يرتفع إلى الصفوة والقدوة، إلى الصحابة رضوان الله عليهم أعلام الهُدى، ومنائر التقى، الذين جاهدوا في الله حق جهاده، وكانوا الدعامة الراسخة التي قام عليها صرح الإسلام.
أولئك الذين هداهم الله فبهداهم نقتدي، وعلى محبتهم نمضي.
الذين قال فيهم رسولنا الأمين:
[ لا تسبوا أصحابي ، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُد ذهباً ما بلغ مُدًّ أحدهم ولا نصيفه ] رواه البخاري ومسلم .
وقال فيهم أيضاً: [وأصحابي أَمَنَة لأمتي فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون] رواه مسلم بنحوه
"الصدّيق" و"الفاروق" و"ذو النورين" وفتى الإسلام وبطله "علي"، وسيد الشهداء "حمزة"، وأمين الأمة "أبو عبيدة"، وسيف الله "خالد" و… و… رضي الله عنهم وأرضاهم.
ولا يكون الحب لهؤلاء الصفوة نزعةً صوفيةً، نخرّ عليها صُماً وعُمياناً ، تهتز بها المشاعر والأحاسيس، وتنهل المآقي بالدموع، بل تكون ترجمةً حيةً عاملة، واقعية الحركة، تصل بين الحس والعقل والإرادة…
فإذا الحب حقيقة وليس تجرداً، وفعلاً لا وهماً أو توهماً.
حب سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم :
ثم يدنو المسلم المحب فيتدلى، ويصبح قاب قوسين أو أدنى، ويشمخ بالبناء حتى يبلغ ما قبل الذروة، ويبدأ الاستعداد النهائي لعملية التوجه الخالص بالحب، ويصيخ بالقلب والسمع والبصر، وبكل نبض في كيانه إلى موحيات الله تعالى تستجيشه وتستقطبه حول الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم.
(لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عَنِتُّم حريص عليكم بالمؤمنين رؤوف رحيم).
(وإنك لعلى خُلق عظيم).
(محمد رسول الله).
(وخاتم النبيين…)
( ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر ويُتم نعمته عليك ويهديَك صراطاً مستقيماً، * وينصرَك الله نصراً عزيزاً).
وغير ذلك كثير، يحفل به الكتاب الخالد.
ويقول الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم : [ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه التي بين جنبيه ] .
وتحضرني حالة ذلك الصحابي الجليل الذي كان يردد أنه لا يطيق فراق النبي صلى الله عليه وسلم، فإذا ما ابتعد عنه قليلاً بسبب من أسباب الحياة، معيشة أو عملاً أو تفقد أهل، ألـحَّتْ عليه نفسه بالشوق إلى رسول الله، فما يلبث أن يُبادر إلى لُقيا الحبيب صلوات الله وسلامه عليه .
كما تحضرني واقعة "مصعب بن عُمير" رضي الله عنه مع أمه التي غاب عنها غياباً طويلاً موحشاً، بعيداً في المدينة، فلما آب إلى مكة ، وجاءها بعد لقائه المصطفى عليه السلام بدأته بقولها: يا عاق… وراحت تعنفه على نكرانه لها، فقال: ما كنت لأبدأ بأحد قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم…
و "أم عمارة" - رضي الله عنها-…
سيدة من المسلمات المبايعات الأنصاريات، تَتَرَّسُ يوم "أحد" دون رسول الله صلى الله عليه وسلم دفاعاً عنه وافتداءً له، ولقد أصيبت يومئذٍ بجراحاتٍ خطيرة.
فلما أبدى "عليه السلام" جزعه عليها قالت: ادع لنا يا رسول الله أن نكون رفقاءَك في الجنة، فدعا لها: فقالت: ما أُبالي بعد الآن، أوقع عليَّ الموت أم وقعتُ عليه.
إنها صُورٌ ونماذج تؤكد - من غير ريب - صدق الحب وحقيقته .
وإذا ما كنا قد قلنا : إننا لا نريد أن يكون حبنا للصفوة الأخيار من الصحابة الكرام نزعة صوفية، أو لحناً لنشيد أو قصيدة تطرب لها الأسماع دن أن يترجم إلى فعل حيّ نابض، إذا ما قلنا ذلك… فإن حُبنا للنبي صلى الله عليه وسلم أجدر وأولى… ولتكون الوصلة التاريخية عبر الزمن متينة راسخة غير مهلهلة ولا مهزوزة، وليكون البناء الهرمي الذي عنينا متماسك الطبقات، متناسق التكوين، سامق الشموخ، في ديمومة واستمرار.
وبعد:
فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم في لفتة كريمة في النبوة الصادقة وانسجاماً مع الرسالة الخالدة يوجهنا إلى حقيقة الحقائق في الحب، إلى الحقيقة المطلقة، إلى خلوص التوحيد، إلى… حب الله تعالى.. يقول عليه الصلاة والسلام:
[ لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين ]
رواه البخاري .
وحب الرسالة بكليتها حب لله.. طاعة وعبادة وخضوعاً
حب الله جل جلاله :
ويبلغ المسلم المحب الصادق الذروة ، ويفنى كلِّيَّة في حب الله تعالى، فإذا كل حركة من حركاته وكل سكنة من سكناته، بل كل لفتة من لفتاته وخلجة من خلجات نفسه تنطق بحب الله، خافضة رافعة… عاملة ناصبة.. جاهدة مجاهدة.
يتعامل مع الوجود كله بحب الله تعالى، ووفق ناموس الحب الذي يلفُّ هذا الوجود، ثم يوقظ النبي صلى الله عليه وسلم في نفوسنا ما غفا وتخدّر من قواعد المنطق وأصول التسلسل، وما أخلد من عالي الأشواق إلى الأعماق، وتمكنت منه نوازع الدنيا فلم يحلق في الأجواء.
يعلنه "عليه السلام" ويوقظه ويحثه حتى لا تبقى محبة الله تعالى على أفواهنا كلمة جوفاء خاوية خالية، عارية عن الحقيقة بقوله عليه السلام وحياً كريماً منـزَّلاً على قلبه الشريف: ( قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ) .
ومحبة العباد لله تقتضي حب الله تعالى لعباده ومن ثم يكون التعامل الكلي في الوجود مع الذات الإلهية ومنها بالحب، وبالحب وحده.
راجع الحب والجنس لمحمد علي قطب
والداء والدواء - لابن قيم الجوزيه
آدم وحواء في واحة الحب
حب النساء :
فطر الله تعالى الرجل والمرأة على ميل كل منهما إلى الآخر وعلى الأنس به والاطمئنان إليه ولذا منّ الله على عباده بذلك فقال: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون) . " الروم: 21" . وقال: (هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها) ." الأعراف: 189 "
وقال: ( هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ) . " البقرة: 187 "، وهذا الميل الفطري والأنس الطبعي مجراه الطبيعي هو الزواج وهذه هي العلاقة الصحيحة التي شرعها الله بين الرجل والمرأة، فمن أحب زوجته وعاشرها بالمعروف سيُرجى أن يكون منهما الذرية الصالحة التي تنشأ في دفء العلاقة الحميمة بين أبوين متحابين متراحمين وهكذا يفرز لنا الحب أسراً قوية البنيان لتعزز لنا هي الأخرى مجتمعاً متين الأركان ولا تكون المجتمعات إلا قوام أمة قوية مرهوبة الجانب.
هذا هو الحب في الإسلام بين الرجل والمرأة. إنه حب عفيف لا ريبة فيه ولا دغل. حب يخدم الأسرة والمجتمع والأمة. إنه حب حقيقي.. حب يتسامى فيه الرجل والمرأة، أما ما يروج بين الناس اليوم وتوظف لترويجه آلات الإعلام الجهنمية فهو زائف… حب هدام.. حب لا يعرف من الحب إلا اسمه.
يقول الأستاذ عبدالحليم محمد قنبس في كتابه " الحب في الأسرة المسلمة " :
لو أردنا أن نبحث عن الحب ومستواه في القرن العشرين، لكفانا أن ننظر نظرة سريعة، على ما كان عليه الحب في الزمن المنصرم، وحالته في الوقت الحاضر، إذ لم يشهد التاريخ يوماً من الأيام حباً زائفاً، كما نشاهده في عصرنا الحاضر.
إن الحب الحقيقي قد فقد عند الشباب، وضاعت هذه الكلمة "الحب" وأصبحت غليظة لا ترقى إلى عالم الروح، لقد ضاعت المعاني الجليلة والأماني السامية الرفيعة، وحبست الآهات العفيفة، وفقدت المُثل العليا وحل محل ذلك.. الحب المزيف، الذي قام مقامها، وأصبح له الكأس المعلّى، وأخذ دوراً فعالاً وعظيماً بين الشباب والشابات، وتحولت كلمة الحب إلى باب من أبواب الخداع والمكر، للوصول إلى غاية ما، وللنهب والاختطاف، هذه هي ثمرة الحب الزائف يجنيها أولئك في القرن العشرين، فيلدغهم شوكها، ويستطعمون بمرارتها، ويتعذبون من آلامها، حب زائف لا عفة فيه ولا طهر، بل كذب وتدليس فأين الحب الحقيقي؟ أي عفته؟ أين حرمته؟..
إننا نسمع الكثير عن المشكلات الاجتماعية، من حيث العلاقات الجنسية: الانتحار - الضياع - الجنون…
لِمَ يحدث هذا ؟ هل من حب حقيقي متبادل بين الطرفين نشأ على العفة والشرف؟ لا. بل لا بد أن أحد الطرفين، قد حمل مشعل الزيف، ليحرق به الآخر، متظاهراً بأنه ينير له الطريق، وما حمله على ذلك إلا خبث نفسه، ونجاسة ثوبه، وفقده لكل ما يمت بصلة إلى الشرف والمروءة، والرحمة والود، فهو لم يفكر إلا بالوصول إلى مآربه، لإشباع غريزته التي استولت عليه فهو كالأنعام بل أضلُ سبيلاً، قد قطع شوطاً في تعلم المكر والخديعة، فأصبح الزواج عنده كلمة موبوءة يجب الابتعاد عنها، ويكفيه أن يعيش بين أحضان الضياع، فقد أصبح ميسوراً لكلا الطرفين أن ينال ما يريده… فهذه صيحات الشباب ترن في الآذان، وويلات الفتيات تهز المشاعر، لقد حدث هذا، حينما فقدت المرأة حشمتها، وخرجت سافرة، مُظهرة كل ما يفتن الشباب، فضاعت أنوثتها، وفقدت كرامتها، ودرس حياؤها فلو أنها حفظت نفسها، ولبست الثوب الذي يغطي فتنتها، ويعيد لها كرامتها، وطبقت قول الله تعالى: (وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يُبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بُخمرهن على جيوبهن ولا يُبدين زينتهن إلا لبعولتهن) ، " النور: 31".
فلو فعلت هذا، لأحبها الشاب حباً حقيقياً، لا حباً جسدياً، ينتهي بقضاء الشهوة منها، ولما سمعت منها الويلات وكذلك الشاب، لو طبق كل ما يتصف به ذو الخلق والعقل، وتوجه إلى قول الله تعالى: (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون) ، "النور: 30". لم تسمع صيحاته ولم تشاهد ضياعه وجنونه.
ويقول تحت عنوان الحب والغريزة الجنسية : لا نريد أن نتطرق في هذا البحث، إلى العلاقة القوية، بين الحب والغريزة الجنسية، لما كتبه أو يكتبه علماء النفس، بل يكفينا أن نفتح كتاب الله سبحانه، فنجد هذه الآية الحكيمة: (زُين للناس حُبّ الشهوات من النساء والبنين والقناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك متاعُ الحياة الدنيا واللهُ عنده حسنُ المآب) . "آل عمران: 14" .
وحينما نقرؤها نفهم مباشرة، أن الحب أول ما يقع، إنما يقع بين الرجل والمرأة فلقد قدم الله تبارك وتعالى حب النساء، على جميع ما يحلو للإنسان، ويحبذه في هذه الحياة، قدم حب المرأة على البنين، وعلى المال وعلى كل ما يسميه الإنسان زينة، ويحب أن يستأثر به…
ومن هنا نلحظ العلاقة القوية، بين الحب والغريزة الجنسية، إذ المرأة من جنس الرجل، ويدلنا على هذا كذلك قول الله سبحانه وتعالى: (يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً) النساء:1 ، فإشباع الغريزة لا يتم إلى بوجود الطرفين معاً. الذكر والأنثى، ولهذا يظهر الحب بين الطرفين، ويصبح زينة تظهر للمرء، ويشعر بها كغريزة مطلوبة، يجب الوصول إليها، وهذه الغريزة لا تتم على الوجه الصحيح والأكمل، إلا بوجود الحب الدائم، الذي انصهر بها، فإن فقد الحب تحولت هذه الغريزة الجنسية من العلاقة الوشيجة المبنية على المودة والرحمة، إلى غريزة بهيمية، تقضى فيها الشهوة بدافع الأمر العفوي، وقدْ نبه على هذا نبي الرحمة والمودة صلى الله عليه وسلم بقوله : [ لا يَنْزُ أحدكم على امرأته نزوَ الديك ] [رواه الديلمي وعزاه المناوي إلى أبي يعلى] بل عليه أن يداعبها ويضاحكها، وينتظر أن تقضي حاجتها منه كما يقضي هو حاجته وبهذا يبقى الشعور بالحب موجوداً بينهما .
ويتم إشباع هذه الغريزة على الوجه الأكمل، حينما يستمر الارتباط بين الرجل والمرأة، ارتباط الزوجية على الطهر والمودة والمحبة، وهذا قول الله تعالى في كتابه: (هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن) "البقرة:187" يبين أن المرأة هي الحرث للرجل، وهي المشبعة لغريزته والمحققة لأحلامه، والمظهرة لحبه، فلا منغص لحبهما، ولا مانع لإشباع غرائزهما ( هن لباسٌ لكم وأنتم لباسٌ لهن )
فهل هناك أمتن من هذا اللباس الساتر لهما ؟ إنه مصنوع من الحب ، مغزول من المودة والرحمة فلا وجود للكبت أو الشذوذ الجنسي، بل اللقاء الحار، والمحبة الصادقة، والألفة الأمينة يشع ذلك كله من خلال هذا اللباس، لباس الطهر والمحبة، الذي وصل إلى شغاف القلبين معاً، إنها لك وأنت لها، اتحاد كامل بين جسمين وروحين لا يفترقان، ولا يلجأ أحدهما إلى المخادعة والتلاعب، لأن الحب قد بني على أسس متينة، مبنية على الطهر والمحبة والرحمة.
ويقول في موضع آخر: فليعلم كل مؤمن ومؤمنة أن حبهما المبني على الطهر والعفة وحب أولادهما المؤسس على المودة والرحمة ليس بعيداً عن حب الله ورسوله بل هو تابع له، فالمؤمن محب لله ولرسوله محب لزوجته وأولاده، محب لكل مؤمن في هذا الوجود.
الحب والعلاقة أثناء الخِطبة :
ليس في هذا الوجود من إنسان، إلا وفيه قلب ينبض، وعينان تشاهدان، القلب لا يخلو من همسة حب، وذرة رحمة، ولكن استعمال هذه الهمسة.. ربما تسخر في إفساد المجتمع، أو في إصلاحه، ولا بد للشاب أن تصبح عنده علاقة حب مع إنسانة ما، ربما تكون حقيقية أو خيالية، وكذلك الفتاة، ولا نريد أن نكتب قاموساً عن العلاقة بين الشاب والفتاة، وعن الفشل والنجاح، بل نريد أن نبحث عن مدى هذه العلاقة، وكيف تتم؟ وماذا تكون نهايتها في نظر الإسلام؟
إن أول ما يستدعي الانتباه لحل مشكلة العلاقة، هو قول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: [ لم يُرَ للمتحابين مثلُ الزواج ] .
لقد اعتبر الحب ناقصاً إذا لم يُتوج بالزواج، وليس بالحب الحقيقي إذا لم يصدّق بالزواج .
لهذا نرى أن الإسلام أوصد باب العلاقة، أمام كل من يريد أن يلهو بها من الطرفين معاً فجعلها محدودة لكي لا يكون أي مجال للشذوذ والتلاعب وحينما تبدأ نسمة الحب يُطلب من المحب أن يعقد القِران فوراً، فلا داعي لتضييع الوقت، وإعادة النظر مرة بعد مرة، لأن الثقة متبادلة بين الطرفين.
ولما فقدت التقوى توفرت دواعي فقدان الثقة، فوجب الحذر الشديد من هذه المرحلة شديدة الحساسية (الخطبة).
أما علاقة الشاب المؤمن، أو الفتاة المؤمنة فمرتبطة برباط الشريعة وهذا الرباط يؤدي - إن تم الوفاق - إلى ارتباط الروحين معاً.
وقد حثّ الإسلام وأكد على ضرورة رؤية الخاطب للمخطوبة والعكس ، لكي لا يحدث في يوم ما كُره من أحدهما للآخر، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجل من الأنصار وقد خَطب فتاة : [ أنظرت إليها؟ ] قال الرجل: لا، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ فاذهب فانظر إليها ، فإن في أعين الأنصار شيئاً ] رواه مسلم وغيره . ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم لأحد الصحابة: [ انظر إليها فإنه أحرى أن يُؤدَم بينكما ] رواه الترمذي وابن ماجه .
ولا غرو في ذلك فإن النظر يورث المحبة ، والكلام يزيل العوائق ، وهو سبيل لحصول المودة التي تسبق السَّكَن (الزواج) .
الحب بين الزوجين
مضت ليلة الزفاف، فهل مضى معها الحب والذكريات؟ وهل توقفت نبضات المودة والرحمة بينهما؟ إن الجواب نجده في هذه الآية الحكيمة: (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إنّ في ذلك لآياتٍ لقومٍ يتفكرون) . " الروم: 21 ".
إنه حب مبني على اللطف والرفق، قد استقر في أعماق القلب وأغوار الحس "لتسكنوا إليها" ووقع في النفس والعقل والجسد، فيجد كل من الزوجين عند الآخر الراحة والطمأنينة والاستقرار، ويستمر هذا الحب بينهما وكأنه نبع فياض، يزيد ولا ينقص، لأنه حب حقيقي نبت على الصدق والعفة وقد وطد النبي صلى الله عليه وسلم علاقة هذا الحب بين الزوجين، وأوضح السبل لاستمراره بقوله: [استوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله…] رواه مسلم وغيره .
إنها وصية لاستمرار المودة والرحمة بينهما ، وقد بين رسول الهدى: أن خير الرجال من أمته، ذلك الذي يحب أهله فيقول: [خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي] رواه الترمذي .
فما هو خير الزوج لزوجته؟ هل الخير بتقديم كل ما يتطلبه بيت الزوجية من حاجات فقط؟ لا بل هناك الذي يبنى عليه كل خير، إنه الحب إنه العطف والحنان، والمحبة والاطمئنان.
وقد لحظ المصطفى عليه الصلاة والسلام أن هناك بعض المنغصات ربما تحدث بين الزوجين، فنبه على ذلك ليسد باب البغض فقال: [لا يفرِكنّ مؤمن مؤمنة إن كره منها خلقاً رضي منها خلقاً آخر] رواه أحمد ومسلم
فلا وجود للبغض، بل حب وتسامح من قبل الزوجين، ولا داعي لوجود المنغصات فإن وجد شيء منها فلا بد من إزالته، وذلك بالرجوع إلى العهد الذي بينهما: عهد المودة والرحمة، عهد المحبة والاستقرار، فالمشاحنات اليومية، والخلافات المستمرة لا وجود لها بين زوجين، أحبا بعضهما حباً خالصاً لا تشوبه شائبة
ولقد استنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يحدث من بعض الرجال من إيذاء زوجاتهم ثم يريدونهن أن يمتثلن لشهواتهم فقال : [ يعمد أحدكم فيجلد امرأته جلد العبد لعله يضاجعها من آخر يومه] رواه البخاري ومسلم
إن النبي صلى الله عليه وسلم ينكر هذا العمل، الذي يميل إلى الحيوانية، لا إنساناً محباً يشعر بالمودة والرحمة، والزوجة.. تلك الإنسانة الوديعة التي لا تستطيع أن تدافع عن نفسها بقوة الجسد، بل لها قلب ينبض بالحنان، وروح تسمو إلى الرأفة والألفة، فماذا تفعل إن حدث هذا معها؟!
إنها ستشعر بفقد حبها وكرامتها ومكانتها عند زوجها، وإن فقدت ذلك، تاهت مع التائهات.
ومن توطيد رسول الله صلى الله عليه وسلم لهذا الحب بين الزوجين قوله: ["هلاّ بكراً تداعبها وتداعبك] فاستمرار المداعبة، دليل على استمرار الحب، ورسوخ الرحمة في قلبيهما، وقد وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم الزوج الذي لا يداعب زوجته بالجفاء فقال: [ ثلاثة من الجفاء… - ومنها - أن يجامع الرجل زوجته ولا يقبلها ] (رواه الديلمي ) إنه جفاء حقاً، لأن إشباع الغريزة لا يكفي.
وهكذا وضع الإسلام ركائز عظيمة ليبنى عليها الحب الصادق ، وليبقى الزوجان في سعادة دائمة، واطمئنان نفسي مستمر.
الحب وحق الزوج
حينما يكون الحب قائماً بين الزوجين ، يصبح الشعور بالحب قوياً من كلا الطرفين تجاه الآخر، فالزوجة حينما تكون علاقة حبها قوية مع زوجها، ستطبق جميع الحقوق التي وجبت عليها، وما هذه الحقوق إلا صورة عملية، وإشعار لزوجها بالحب الذي استقر في قلبها، لهذا يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: [الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ] رواه مسلم .
الحب وحق الزوجة
كما أن الزوجة تظهر حق زوجها بحبها له، كذلك على الزوج أن يظهر حقها بحبه لها، فما هذه الحقوق ؟
إن أول حق للزوجة، هو تلك المعاشرة الحسنة من قبل الزوج، ويتضح هذا من خلال قول الله تعالى: (وعاشروهن بالمعروف) ، "النساء: 19 " فالمعاشرة الحسنة هي أساس اطمئنان النفس، وركن من أركان الحب الذي يظهره الزوج لزوجته، فمهما قدم لها من حقوق، وكان فظاً معها في معاملته فسيبقى الاطمئنان والارتياح النفسي مفقوداً بينهما، ويدلنا على هذا قول نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم: [خيركم خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي] رواه الترمذي.
الحب وحق الأولاد
إن النسل هدف أصيل من أهداف الحياة الزوجية، فحينما يكون الحب متبادلاً بين الزوجين لا بد من تقوية لهذا التبادل، وذلك بسعيهما وبدافع الرغبة منهما التي لها جذورها في نفسيهما لوجود طفل بينهما، يرمقانه بعين الرحمة والحنان ويضمانه بروح المحبة والاطمئنان، ويبذلان قصارى جهدهما لإسعاد هذا الطفل لكي يشعر بالحب والألفة، بالسعادة والسلام.
كل ذلك يتحقق حينما يكون هدفهما موحداً ومتجانساً، فيغرس الحب في قلب الطفل كما غرس في قلبيهما .
ويقول الدكتور محمود بن الشريف في كتابه " الحب في القرآن " :
وقد تهب رياح حقد وكراهية فتثير في أرجاء البيت عواصف وزوابع، وقد تظلل سماء البيت سحابة قاتمة سوداء تعكر الصفو وتنذر بالقطيعة والتفرق، وقد تمر فترات تتقلب خلالها القلوب فتنقلب آيات المحبة والرحمة إلى بغض ونفور، وتضيق نفس الزوج أو الزوجة بالمنزل ومن فيه وما فيه، وإن لم يثبت البنيان العائلي أمام ما اعتراه من هذه الطوارئ والمفاجآت تركت أخاديد عميقة في بنائه وإن لم تكن الحياة الزوجية وقت ذاك مدعمة بحسن العشرة.
والقرآن الكريم قد عالج هذه الحالات التي تعتري نفسية الأزواج.. فوضع لهم ذلك المبدأ (وعاشروهن بالمعروف) والمعاملة باللطف واللين، فإن استبدت بهم النوازع وتحجرت العواطف وتملكتهم الكراهية.. ( فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعلَ الله فيه خيراً كثيراً..) وكما يكمن البرء في مر الدواء. وتحمل الشدة في طياتها بوادر الفرج، فقد يكون وراء الكراهة ما وراءها من جليل الخير وجزيل النعم (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا) ، "النساء: 19" على أن حسن المعاشرة لا يطالب به الرجل وحده، ولا المرأة وحدها، بل هو قدر مشترك بينهما يطالب به كل منهما.
إن كلمة رقيقة من أحدهما للآخر.. أو دعابة مستملحة، أو هدية في مناسبة - وما أكثر المناسبات في الحياة الزوجية - أو مشاركة رمزية من الزوج في أعباء المنزل وأعماله.. وإن هذه الأشياء التي تبدو لدى بعضهم أشياء تافهة صغيرة لها وقع في النفوس، ولها نفع وأي نفع .
الحب يبني الأسرة المسلمة
يقول الأستاذ محمد قطب في كتابه " منهج التربية الإسلامية " :
ومن أجل تحقيق التوازن في سد حاجات الإنسان النفسية والبدنية اعتبر الإسلام الغريزة الجنسية إحدى الطاقات الفطرية في هذا التركيب ويجب أن يتم تنظيم وضبط تصريفها لا إطلاقها ولا كبتها.
إن استخراج هذه الطاقة من جسم الإنسان ضروري كما أن اختزانها غير سوي وفيه مضرة .. ولكن بشرط الانتفاع بها وتحقيق مقاصدها الإنسانية .
وأول تلك المقاصد : عقد أواصر المودة والرحمة بين الرجل والمرأة ...
وثانيها : تكوين الأسرة محضن الأمن والراحة والسعادة ، ومفرخ الأجيال ، ومصنع الرجال ومناط المسؤولية الاجتماعية ، وهي مباءة جديدة يتسع فيها معتى الحب ويكبر ، ويزداد نمواً وتألقاً وإشراقاً .
وثالثها : إخصاب الحياة باستمرار النوع الإنساني وتكاثره ومن ثم يتسلسل الحب مودة ورحمة وتعاطفاً من الأسرة الصغيرة إلى الأسرة الاجتماعية الكبيرة .
ورابع المقاصد : استفراغ الطاقة الجنسية في أسلوب بعيد عن البهيمية المحضة والفوضوية المطلقة تحقيقاً للراحة النفسية والحسية عند الطرفين .
وخامسها: أن يظل الحب عنواناً مهيمناً يسمو بروح الإنسان وجسده عن دنيوية وحيوانية الجنس . انتهى .
إذاً فالميل الفطري نحو الجنس الآخر إذا نبت منه الحب فلا بد أن يروى هذا النبت بالنكاح ليثمر لنا خير الفرد والأسرة والمجتمع.
النكاح هو النهاية الطبيعية للمحبين :
روى ابن ماجه والحاكم عن ابن عباس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: [ لم يُر للمتحابين مثل النكاح ] . المعنى أنك - أيها المحب - لم تر ما تزيد به المحبة مثل الزواج فإذا رأى رجل امرأة فأخذت بمجامع قلبه فنكاحها يورثه مزيداً من المحبة ولذا قال العلماء: أعظم الأدوية التي يعال